السبت، 18 أبريل 2020

سائس كلاب



‫يكاد يكون لكل شيء مقدِّمة في الكون، فمقدمة النهار الصباح معه تشرق الشمس بمداعباتها الضوئية اللطيفة، وبعد حين تُرى الشمس قائظة في كبد السماء، وكذلك الليل لا يهوي علينا بجلباب ظلامة كصخرٍ حطه السيل من أعلى جبل، وإنما تغرب الشمس رويداً رويداً ويضيء السماء الشفق بلونه الطوبي الذي يأخذ ألباب العُشاق، ثم يختفي ويأتيك دجى الليل الحالك، ليبدو القمر آخاذاً. 
هكذا تبدأ الأشياء بسيطة، وتبدأ تتكشف عُقدِها كلما كانت الحاجة للدهشة ألذ وأشهى.
وعند الأكل تبدأ الوجبات الغذائية المضيافة، بالمقبلات، ثم الطبق الرئيس، فالحلا ..
إذن هي الأمور هكذا: مقدمة، متن، خاتمة.. وكلما أحسنت الدخول كان الختام مسكًا.

بطبعي، لا أثق بالمقدمات الطويلة العريضة التي قبل الأسماء، ربما هي كل الفكرة المُراد توصيلها للآخر. 
تلك أشياء يدخل فيها الرياء مع بستان الفخر، ليصل منظر التباهي فاسدًا وبشعًا. 
لدينا من الرحيق الندي ما يُجنبنا هذا كله، (خير الكلام ما قل ودل) أيننا من ذلك؟ 
حيث تكفي الإشارة بشيءٍ مختصر عن سيرة الشخص للتعريف به، إن لم يكون معروفًا وهو حقه، أو إن دعت الضرورة لذلك، أو ألح المتابعون لمعرفة ماهية المتحدث. 
عندما أتابع برنامجًا أو أمسية أو لقاءً أريد منه الخبر المفيد، فلا أجد إلا اللهاث خلف ترنّم كلمات تُقْبل وتُدبر حول الوصف الوظيفي للضيف، والاحتفاء بعلاقة شخصية تلوح في الأفق، تلك التي تأتي على شكل نحن يا لسعادتنا المنتفشة مع سعادته وسيادته، فالمذيع لا ينبغي أن يكون مهرجاً ولا محرجاً، والمتلقي لا يليق به أن يُوضع في دور الأطرش في الزفة! 
فتدور الحلقة المفرغة حول البداية والنهاية دون أن يكن للسند (المتن) مستنداً مفيداً للمستمع.

وذلك يقودنا إلى التأكيد بأنَّ المتابع متذوق لهذا الفن، ولابد أن نرتقى قليلاً عن مسمى جماهير وترديدها بكثرة توحي بالانتقاص من الحضور أو المشاهدين وكأنهم فئة لا تفقه أمراً، فالجماهير كما يعرّفها (غوستاف لوبون هي فئة غير عاقلة... في كتابه سيكلوجية الجماهير، ووصفها بتحليل سيكولوجي دقيق بأنها لا تفكر أو تفكر بشكل خاطئ…)، فلنقلْ المتلقي في لقاءاتنا عمومًا، فكلما قُلنا المتلقي، نما إلى أعماقنا مسؤولية مضاعفة، لمحاولة إبقائه بإطار واسع من الذوقيات ومحتوى يليق بإمضاء وقته معنا؛ كونه شريك النجاح. 

هناك صفة وظيفية لكل عامل في الكون، لا يجب أن تنتقل معه على مائدة الطعام، وغرفة النوم، ودورة المياة! 
فأكمل الألقاب ما جاء تالياً للاسم، إن كانت هناك ثمة مسألة تستحق الاكتمال! 
إنني لا اتحدث عن الألقاب المستحقة، التي يُعرف بها أصحابها كما يعرفوا بأسمائهم، إن الحديث يدور حول من يضع الأبهة التي تليق بالأسد فاتحة كتاب لذبابة أو أدق، هُنا الظلم الواقع على الذبابة لا يتخيله مُتخيلًا، فليس للذبابة نابًا إن هي ابتسمت! 

تجد المقدِّمات التي لا تترك شاردةً ولا واردة مع علامات الإيحاء والتشكيل الصوتي، ليقلْ عندنا سائس كلاب! (بالطبع لن يُقدّم هذا اللقب على صاحبه، مع فائق الاحترام للكلب والمهنة ومن يقوم بها، ولو قُدِّمَ ماذا سيكون المتلقي حينها!؟). 
أو أن يقل معنا ذلك النجس الرهيب! أو النابح العندليب، أو يتبختر بقول معنا مُعلّم الكلبية الحقّة! مع أن ذلك يعني تعليم الوفاء! لكنه يبقى في دائرة المستهجن، مادام في الوجود من يُميّز ما يُقال ومالا يُقال. 
عندما تعرف حجم المأساة؛ لا تعزف وإن كان لك ما تريد، فقط كبّر وهلل وحوقل وسبِّح بحمد ربك العظيم.


رسالة إلى أخي الأكبر

إلى المولود المفقود في شجرة عائلتي.. إلى أخي الأكبر الذي لم تنجبه الأيام، إلى الآلام التي ما برحت تعبث في الأحشاء، إلى كل شيء تمنيته وحدث ما...